وإذ كانت الأمارات الأربع المذكورة آنفاً بديهيّةً لا يُرتاب فيها ، فعلى المنكرين أن يرجعوه إلى مقولة الوضع ، فغيرها من الجوهر وسائر الأعراض لا ينطبق عليه ألبتّةَ.
لكن يرد عليه : أنّ الجسم ربّما ينتقل من مكان إلى مكان مع عدم التغيّر في جوهره وسائر أعراضه غير الأين وربّما يعرضه التغيّر فيه مع عدم الانتقال ، فالمكان غير الجميع حتى الوضع.
والقول بأنّه الهيولى أو الصورة لا تنطبق عليه الأمارات السابقة ، فإنّ المكان يُطلب بالحركة ويُترك بالحركة ، والهيولى وكذا الصورة لا تُطلبان بالحركة ولا تتُركان بالحركة ، وأيضاً المركّب يُنسب إلى الهيولى فيقال : «باب خشبيّ» أو «من حديد» ولا يُنسب إلى المكان.
فالمعتمد هو القول بالسطح أو البعد الجوهريّ المجرّد عن المادّة.
وللفريقَيْن إحتجاجات ومشاجرات طويلة مذكورة في المطوّلات (١).
ومن أقوى ما يورد على القول بالسطح (٢) أنّ لازِمَهُ كون الشيء ساكناً ومتحرّكاً في زمان واحد ، فالطير الواقف في الهواء والسمك الواقف في الماء عند ما يجري الهواء والماء عليهما يجب أن يكونا متحرّكين لتبدّل السطح المحيط بهما من الهواء والماء وهما ساكنان بالضرورة.
وأيضاً المكان متّصفٌ بالفراغ والإمتلاء ، وذلك نعتُ البعد لا نعت السطح.
ومن أقوى ما يورد على القول بالبُعد الجوهريّ المجرّد (٣) أنّ لازِمَهُ تداخُلُ المقدارين ، وهو محال ، فإنّ فيه حلولُ الجسم بمقداره الشخصيِّ الذّاهب في
__________________
(١) راجع الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والمباحث المشرقية ج ١ ص ٢٢٣ ـ ٢٢٨ ، والأسفار ج ٤ ص ٤٢ ـ ٤٨ ، وشوارق الإلهام ص ٣٠١ ـ ٣١٠ ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص ١٥٦ ـ ١٦٠.
(٢) هذا الإيراد تعرّض له الشيخ الرئيس في الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، ثمّ أجاب عنه في الفصل التاسع.
(٣) هذا الإيراد أورده الشيخ الرئيس على أصحاب البُعد في الفصل السابع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.