قال في الصحاح (١) : «حلي بعيني وفي عيني ـ بالكسر ـ يحلى حلاوة إذا أعجب» قال : «وقولهم : لم يحل منه بطائل أي لم يستفد منه كبير فائدة ، ولا يتكلّم به إلّا مع الجحد» انتهى. ولا يظهر واحد من هذين المعنيين هنا ، فإن كان (حلي) يستعمل بمعنى : تحلّى بكذا أي اتصف به ـ فلا إشكال ، وإلا فقد يكون أصل التصنيف ، فقلما تحلّى ثم عرض التغيير للكلمة في الكتابة.
(وإذا كانت العلوم منحا إلهيّة ومواهب اختصاصيّة ، فغير مستبعد أن يدّخر لبعض المتأخّرين ما عسر على كثير من المتقدّمين). العلوم هنا جمع علم مرادا به اسم ذات المعلوم لا المصدر. ولذلك جمعه ، ويدّخر : يفتعل ، من دخر الشيء إذا أحرزه وحفظه. وهذا الكلام كالجواب عما هو كالسؤال المقدر ، وذلك أنه لما ادعى في كتابه دعوى يلزم منها أنه اشتمل [١ / ٨] في هذا الفن على ما لم يشتمل عليه غيره ، والتزم للمقبل عليه بحصول أمله من هذا العلم ، آمرا له أن يتلقى كل ما يرد عليه منه بالقبول. توهم أن قائلا يقول : يبعد أن يفوق متأخر على متقدم ، وأن يأتي بمصنف لم يسبق إليه ، مع عظمة قدر من تقدم من علماء هذه الصناعة.
فرد هذا الوهم بأن المواهب من الله عزوجل والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، لا مانع لما أعطى.
وهذا الكلام وإن كان مطلقا بالنسبة إلى كل ذي موهبة من العلم ، فيه رمز وإشارة إلى أنه ، أعني المصنف ـ رحمهالله تعالى ـ من المتأخرين الذين ذخر لهم ذلك. وإنما ترك التصريح بذلك أدبا ؛ لأن الإنسان لا ينبغي له تزكية نفسه.
فإن قيل : إذا كان الإنسان لا ينبغي له ذلك فكيف أشار إليه ولوح به؟
قلت : لإيراده الكلام مورد الاعتراف ؛ فإن الله سبحانه وتعالى تفضل عليه بأن جعله من المختصين بمواهبه المشرفين بمنحه ، بعد إسناد المواهب كلها إلى الله تعالى ، وأنه يختص بها من أراد ، ففي طي كلامه إقرار بنعم الله تعالى عليه واعتراف
__________________
(١) هو كتاب الصحاح للجوهري (توفي سنة ٣٩٨ ه) ، معجم كبير من ستة أجزاء ومواده مرتبة على نظام القافية ؛ بل يعد هذا المعجم إمام هذه المدرسة.
وانظر ما اقتبسه الشارح منه مادة حلا : (٦ / ٢٧١٩) طبعة بيروت. وقد حذف الشارح منه شيئا قليلا.