أوّليّته : أصله (١) من إشبيلية ، من حصن شلب من كورة باجة ، من غربيّ صقعها ، يعرفون فيها ببني شبرين معرفة قديمة. ولّي جدّه القضاء بإشبيلية ، وكان من كبار أهل العلم ، تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلّب العدو عليها عام ستة وأربعين وستمائة ، فاحتل رندة ثم غرناطة ، ثم انتقل إلى سكنى سبتة ، وبها ولد شيخنا أبو بكر ، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة (٢) ، فارتسم بالكتابة السلطانية ، وولّي القضاء بعدة جهات ، وتأثّل مالا وشهرة ، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.
حاله : كان (٣) فريد دهره ، ونسيج وحده في حسن السّمت والرّواء (٤) ، وكمال الظّرف وجمال الشّارة ، وبراعة الخطّ ، وطيب المجالسة ، خاصّيا ، وقورا ، تام الخلق ، عظيم الأبّهة ، عذب التّلاوة لكتاب الله ، من أهل الدين والفضل والعدالة ، تاريخيّا ، مقيّدا ، طلعة اختيار أصحابه ، محققا لما ينقله ، فكها مع وقاره ، غزلا ، لوذعيّا ، عليّ شأن الكتابة ، جميل العشرة ، أشدّ الناس على الشّعر ، ثم على المحافظة ، ما يحفظه من الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح ، يناغي الملكين في إثباتها ، مقرّرة التواريخ ، حتى عظم حجم ديوانه ، تفرّدت أشعاره بما أبرّ على المكثرين ، مليح الكتابة ، سهلها ، صانعا ، سابقا في ميدانها ، راجحا كفّة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس ، اتّسع بها نطاق روايته. وتقلّب بين الكتابة والقضاء ، منحوس الحظ في الاستعمال ، مضيّقا فيه ، وإن كان وافر الجدّ ، موسّعا عليه.
وجرى ذكره في كتاب «التاج المحلّى» بما نصّه :
خاتمة المحسنين ، وبقية الفصحاء اللّسنين ، ملأ العيون هديا وسمتا ، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ما شئت من فضل ذات ، وبراعة أدوات. إن خطّ ، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خطّ. وإن نظم أو نثر ، تبعت البلغاء ذلك الأثر. وإن تكلّم أنصت الحفل لاستماعه ، وشرع لدرره النّفيسة صدق أسماعه. وفد على الأندلس عند كائنة سبتة ، وقد طرحت النّوى برحاله ، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله ، ومصرّف بلاده ، والمستولي على طارفها وتالدها ، أبو عبد الله بن الحكيم ، قدّس الله صداه ، وسقى منتداه ، فاهتزّ لقدومه اهتزاز الصّارم ، وتلقاه تلقي الأكارم ، وأنهض إلى لقائه آماله ، وألقى له قبل الوسادة ماله ، ونظمه في سمط الكتّاب ، وأسلاه عن أعمال
__________________
(١) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠).
(٢) في تاريخ قضاة الأندلس : «ثم عاد عند الحادثة التي كانت بها في أواخر عام ٧٠٥ إلى غرناطة».
(٣) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠).
(٤) في المصدر السابق : «وجمال الرواء».