أبي الحجاج المنتشافري ، فراقه ببشر لقائه ، ونهل على الظمأ في سقائه ، وكانت بينهما مخاطبات ، أنشدنيها بعد إيابه ، وأخبرني بما كان من ذهاب زاده وسلب ثيابه.
وخاطبني من شرح حاله في ارتحاله بما نصّه : ولما دخلت رندة الأنيقة البطاح ، المحتوية على الأدب والسّماح ، والعلم والصلاح ، أبرز القدر أن لقيت بها شيخنا المعمّر رئيس الأدباء ، وقدوة الفقهاء ، أبا الحجاج المنتشافري ، وكنت لم أشاهده قبل هذا العيان ، ولا سمح لي بلقائه صرف الزمان ، ولم أزل أكلف بمقطوعاته العجيبة ، وأولع بضرائبه الغريبة ، وتأتي منه مخاطبات تزري بالعقود بهجة ، وتطير لها العقود لهجة. نظم كما تنفّس الصبح عن تسيمه ، ونثر كما تأسس الدّر بتنظيمه ، فأحلّني منه محلّ الروح من الجسد ، وشهد لي أني أعزّ من عليه ورد ، ورآني قد ظهرت على مضاضة الاكتئاب ، لكوني قريب عهد بالإياب ، مهزوما انهزام الأحزاب ، خالي الوطاب (١) ، نزر الثياب ، فقال : فيم الجزع ، ذهب بحول الله الخوف وأمن الفزع ، فأجبته عجلا ، وقلت أخاطبه مرتجلا : [الكامل]
لا تجزعي ، نفسي ، لفقد معاشري |
|
وذهاب مالي في سبيل القادر |
يا رندة (٢) ، ها أنت خير بلاده |
|
وبها أبو حجاج المنتشافري |
سيريك حسن فرائد من نظمه |
|
فتزيل كل كآبة في الخاطر |
فأجابني مرتجلا : [الكامل]
سرّاي ، يا قلبي المشوق ، وناظري ، |
|
بمزار ذي الشّرف السّنيّ الطاهر |
روض المعارف زهرها الزّاهي |
|
أوصافه (٣) أعيت ثناء (٤) الشاكر |
ولواد آش من (٥) فخار لم يزل |
|
من كابن حزب الله نور النّاظر |
وافى يشرّف رندة بقدومه |
|
فغدت به أفقا لبدر زاهر |
من روضة الأدباء أبدى زهرة |
|
قد أينعت عن فكر حبر ماهر |
جمع المآثر بالسّناء (٦) وبالسّنا |
|
أعظم به من صانع لمآثر |
ما زلت أسمع من ثناه مآثرا |
|
كانت لسامعها معا والذّاكر |
__________________
(١) الوطاب : جمع وطب وهو سقاء اللبن وهو جلد الجذع فما فوقه. وقوله : خالي الوطاب : أي انهزم أو قتل. محيط المحيط (وطب).
(٢) في الأصل : «ورندة» وكذا ينكسر الوزن.
(٣) في الأصل : «ومن أوصافه» وكذا ينكسر الوزن.
(٤) في الأصل : «ثنا» وكذا ينكسر الوزن.
(٥) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(٦) في الأصل : «السناة».