موضع يخرج إليه في فصل العصير ، فكنت أجتاز عليه مع أبي فألثم يده ، فربما قبّل رأسي ، ودعا لي ، وكان أبي يسأله الدعاء فيخجل ، ويقول : أنا والله أصغر من ذلك. قال : وكان بإزائه أبو جعفر البلنسي ، وكان متوقّد الخاطر ، فربما تكلم مع أحد التجار ، فكان منه هفوة ، فيقول له جلساؤه : شتّان والله بينك وبين أبي عبيد الله في العقل والصمت ، فربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها ، فما يزيد على التبسم. فلما كان أحد الأيام ، جاء البلنسي ليفتح دكانه ، فتعمّد إلقاء الغلق من يده ، فوقع على رأس أبي عبد الله ، وهو مقبل على شغله ، فسال دمه ، فما زاد على أن قام ومسح الدم ، ثم ربط رأسه ، وعاد إلى شغله. فلمّا رأى ذلك منه أبو جعفر ترامى عليه ، وجعل يقبّل يديه ، ويقول : والله ما سمعت برجل أصبر منك ، ولا أعقل.
شعره : وشعره لا نهاية فوقه رونقا ومائية ، وحلاوة وطلاوة ، ورقّة ديباجة ، وتمكّن ألفاظ ، وتأصّل معنى. وكان ، رحمه الله ، قد خرج صغيرا من وطنه ، فكان أبدا يكثر الحنين إليه ، ويقصر أكثر منظومه عليه. ومحاسنه كثيرة فيه ، فمن ذلك قوله (١) : [الطويل]
خليليّ ، ما للبيد قد عبقت نشرا؟ |
|
وما لرؤوس الرّكب قد رنّحت (٢) سكرا؟ |
هل المسك مفتوقا (٣) بمدرجة الصّبا |
|
أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا؟ |
خليليّ ، عوجا بي قليلا (٤) فإنه |
|
حديث كبرد الماء في الكبد الحرّى |
قفا غير مأمورين ولتتصدّيا (٥) |
|
على ثقة للمزن (٦) فاستسقيا القطرا |
بجسر معان والرّصافة أنه |
|
على القطر أن يسقي الرّصافة والجسرا (٧) |
بلادي التي ريشت قويدمتي (٨) بها |
|
فريخا وأورثتني قرارتها وكرا |
مبادئ (٩) أنيق (١٠) العيش في ريّق الصّبا |
|
أبى الله أن أنسى اغتراري بها غرّا (١١) |
__________________
(١) القصيدة في ديوان الرصافي البلنسي (ص ٦٨ ـ ٧١).
(٢) في الأصل : «رجحت» والتصويب من الديوان.
(٣) في الأصل : «مفتوتا» والتصويب من الديوان.
(٤) في الديوان : «عليها».
(٥) في الديوان : «ولتصديا بها».
(٦) في الديوان : «للغيث».
(٧) الرصافة : من أبدع منازه بلنسية تقع بين بلنسية والبحر. الروض المعطار (ص ٢٦٩) ، والمغرب في حلى المغرب (ج ٢ ص ٢٩٨). وجسر معان : أغلب الظن أنه جسر نهر معان ، وهو نهر ببلنسية ؛ يذكر الحميري أن بلنسية تقع على نهر جار ينتفع به ، وتدخله السفن.
(٨) القويدمة : تصغير القادمة وهى إحدى القوادم أربع ريشات في مقدّم الجناح. لسان العرب (قدم).
(٩) في الأصل : «فبادى» والتصويب من الديوان.
(١٠) في الديوان : «لين».
(١١) في الديوان : «... أنسى لها أبدا ذكرا».