وأبقى أمره في ولده ، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية واختيارا ، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدّس أبيه ، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة ، لمخايل الخير ، ومزية السّن ، ومظنّة (١) البركة ، وهو يافع ، قريب العهد (٢) بالمراهقة ، فأنبته الله النّبات الحسن ، وسدل به السّتر ، وسوّغ العافية ، وهنّأ العيش ؛ فلم تشحّ في مدته السماء ، ولا كلب الأعداء ، ولا تبدّلت الألقاب ، ولا عونيت الشدائد ، ولا عرف الخوف ، ولا فورق الخصب ، إلى أن كانت عليه الحادثة ، ونابه التّمحيص الذي أكسبه الحنكة ، وأفاده العبرة ، فشهد بعناية الله في كفّ الأيدي العادية ، وأخطأ ألم السّهام الرّاشقة ، وتخييب الآمال المكايدة ، وانسدال أروقة السّتر والعصمة ، ثم العودة ، الذي عرف الإسلام بدار الإسلام قدرها ، وتملّأ عزّها ورجح وزنها ، كما اختبر ضدّها فرصة الملك ، وشاع العدل ، وبعد الصيت ، وانتشر الذّكر ، وفاض الخير ؛ وغزر القطر ، فظهرت البركات ، وتوالت الفتوح ، وتخلّدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل ، ما يسعه الترتيب بحول الله.
ترتيب دولته الأولى : إذ هو ذو دولتين ، ومسوّغ ولايتين ، عزّزهما الله ، بملك الآخرة ، بعد العمر الذي يملأ صحايف البرّ ، ويخلّد حسن الذّكر ، ويعرف إلى الوسيلة ، ويرفع في الرفيق الأعلى الدّرجة ، عند الله خير وأبقى للذين آمنوا ، وعلى ربّهم يتوكلون.
وزراؤه وحجّابه : انتدب إلى النّيابة عنه ، والتّشمير إلى الحجابة ببابه ، الشيخ القائد المعتمد بالتّجلّة ، المتحول من الخدّام النّبهاء ، المتسود الأبوة ؛ المخصوص بالقدح المعلّى من المزية ، المسلّم في خصوصيّة الملك والتربية ، ظهير العلم والأدب ، وأمين الجدّ ، ومولى السّلف ، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد ، وعقد سفرة (٣) السلطان ، وبقية رجال الكمال من مشيخة (٤) المماليك ، وخيار الموالي ، أبا النعيم رضوان ، رحمه الله ، فحمد الكلّ ، وخلف السلطان ، وأبقى الرّتب ، وحفظ الألقاب ، وبذل الإنصاف ، وأوسع الكنف ، واستدعى النّصيحة ، ولم يأل جهدا في حسن السّيرة ، وتظاهر المحض ، وأفردني بالمزيّة وعاملني بما يرتدّ عنه جسر أطرف الموالاة والصّحبة ، ووفّى لي الكيل الذي لا يقتضيه السّن ، والقربة من الاشتراك في الرتبة ، والتّزحزح عن الهضبة ، والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة ، والمحافظة على التّشيّع والقدمة ، بلغ في ذلك أقصى الغايات ، مدارج التخلق المأثور عن الجلّة ،
__________________
(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٣): «ومظنة الحصافة».
(٢) في اللمحة : «قريب عهد بحال المراهقة».
(٣) في اللمحة البدرية : «وعقدة السلطان ...».
(٤) في اللمحة البدرية : «مشيخة ولاء بيتهم أبو النعيم رضوان».