المالكيّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول ، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع. وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وذكر أنّ المالكيّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث : خيار المجلس ؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلا من أصول الشريعة ، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها ، وبذلك صار ما قرّرته مقدّما عند مالك على خبر الآحاد ، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا».
واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم ، كبيع الخيار ، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه.
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب ، والتعاقد على نصر المظلوم ، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام ، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد ، فبقي الأمر متعلّقا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه : كحلف الفضول. وفي الحديث : «أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام». وبقي أيضا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلىاللهعليهوسلم وقريش. وقد روي أنّ فرات بن حيّان العجلي سأل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن حلف الجاهلية فقال : «لعلّك تسأل عن حلف لجيم وتيم ، قال : نعم ، قال : لا يزيده الإسلام إلّا شدّة». قلت : وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه. وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية ، كما تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) في سورة آل عمران [١٧٣].
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).
أشعر كلام بعض المفسّرين بالتّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) بقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). ففي «تلخيص الكواشي» ، عن ابن عباس : المراد بالعقود ما بعد قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) اه. ويتعيّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبدؤه قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) الآيات.
وأمّا قول الزمخشري (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تفصيل لمجمل قوله : (أَوْفُوا