أقضّي نهاري بالحديث وبالمنى |
|
ويجمعني والهمّ بالليل جامع (١) |
ووقع في قلبها مثل الّذي وقع بقلبه ، فجاء يوما يحدّثها ، فجعلت تعرض عنه ، تريد أن تمتحنه ، فجزع واشتدّ عليه ، فخافت عليه وقالت :
كلانا مظهر للناس بغضا |
|
وكلّ عند صاحبه مكين (٢) |
فسرّي عنه ، وقالت : إنّما أردت أن أمتحنك ، وأنا معطية لله عهدا : لا جالست بعد اليوم أحدا سواك ، فانصرف وأنشأ يقول :
أظنّ هواها تاركي بمضلّة |
|
من الأرض لا مال لديّ ولا أهل |
ولا أحد أفضي إليه وصيّتي |
|
ولا وارث إلّا المطيّة والرّحل |
محا حبّها حبّ الألى كنّ قبلها |
|
وحلّت مكانا لم يكن حلّ من قبل (٣) |
قلت : ثمّ اشتدّ بلاؤه بها ، وشغفته حبّا ، ووسوس في عقله ، فذكر أبو عبيدة : أنّ المجنون كان يجلس في نادي قومه وهم يتحدّثون ، فيقبل عليه بعضهم ، وهو باهت ينظر إليه لا يفهم ما يحدّث به ، ثم يثوب إليه عقله ، فيسأل عن الحديث فلا يعرفه ، حتى قال له رجل : إنّك لمخبول ، فقال :
إنّي لأجلس في النادي أحدّثهم |
|
فأستفيق وقد غالتني الغول |
يهوي بقلبي حديث النّفس نحوكم |
|
حتى يقول جليسي أنت مخبول |
قال أبو عبيدة : فتزايد به الأمر حتى فقد عقله ، فكان لا يقرّ في موضع ، ولا يؤويه رحل ، ولا يعلوه ثوب ، إلّا مزّقه ، وصار لا يفهم شيئا ممّا يكلّم به إلّا أن تذكر له ليلى فإذا ذكرت له أتى بالبدائه.
وقد قيل : إنّ قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان ، فأهدر دمه ، ثم إنّ قومها ترحّلوا من تلك الناحية ، فأشرف فرأى ديارهم بلاقع ، فقصد منزلها ، وألصق صدره به ، وجعل يمرّغ خدّيه على التراب ويقول :
__________________
(١) الأغاني ٢ / ٤٥.
(٢) الأغاني ٢ / ١٤ ، و ١٦ ، و ٣١ ، الشعر والشعراء ٢ / ٤٦٩ ، فوات الوفيات ٣ / ٢٠٩.
(٣) الأغاني ٢ / ٤٦ ، سير أعلام النبلاء ٤ / ٦.