أخيه سيف الاسلام صاحب اليمن ، فاكرمه والتزمه واحترمه ، وعاد إلى القلعة المنصورة فدخلها من باب الحديد وكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا ، ثم انه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشره ، فلما أصبح دخل عليه القاضي وابن شداد وابنه الأفضل ، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقة البارحة ، وطاب له الحديث ، وطال مجلسهم عنده ، ثم تزايد به المرض واستمر وفصده الأطباء في اليوم الرابع فاعتراه يبس وحصل له عرق شديد ، بحيث نفذ إلى الأرض ، فقوي اليبس أيضا ، فأحضر الأمراء والأكابر والرؤساء فبويع الأفضل نور الدين علي وكان نائبا على ملك دمشق ، وذلك عند ما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الأوقاف وكان الدين يدخلون عليه في هذه الحال القاضي الفاضل وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي ، وتفاقم به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر المذكور ، واستدعي الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر ، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في غمرات الموت فقرأ قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (الآية). فقال : وهو كذلك صحيح ، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو بآخر رمق ، فلما قرأ القارئ قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه عزوجل ، ومات رحمهالله تعالى وأكرم مثواه ، وجعل جنة الفردوس مأواه ، عن سبع وخمسين سنة ، وغلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل ، وأخذوا في تجهيزه وغسله ، وحضر جميع أولاده وأهله ، ويعزّ عليهم أن يأتوا بمثله ، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الصالح ضياء الدين عبد الملك الدولعي. وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز هو القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال ، هذا وأولاده الكبار والصغار يبرزون وينادون ويبكون وأخذ الناس في العويل والانتحاب والابتهال وابرز نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر ، وأم الناس في الصلاة عليه قاضي القضاة محيي الدين محمد بن الزكي الشافعي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة ، وارتفعت الأصوات بالبكاء وعظم الضجيج ، حتى ان العاقل كان يتخيل أن الدنيا تضج