فمع هذا الاضطراب والاختلاف ـ في الحديث ـ لا يمكن ـ لأيّ فقيه ـ أن يثق به ويعتمد عليه.
ثالثاً : إنّ هذا الحديث ـ على فرض صحّته والغضّ عن اضطرابه ـ لا يدلّ على أكثر من نهي النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عن البناء على القبور ، ولكن النهي لا يدلّ على الحرمة ، لأنّه قسمان : نهي تحريم ونهي كراهة ، والقسم الثاني كثير جداً في أحاديث النبي والأئمّة الطاهرين عليهمالسلام.
صحيح أنّ الأصل في النهي التحريم ، وأنّه حقيقة فيه حتّى يثبت دليل يصرفه عن التحريم إلى الكراهة ، ولكن العلماء والفقهاء لم يستنبطوا من ذلك إلّا الكراهة فقط ، فترى ـ مثلاً ـ الترمذي يذكر هذا الحديث في صحيحه تحت عنوان : كراهية تجصيص القبور و... وأوضح شاهد على الكراهة هو أنّ السندي ـ شارح صحيح ابن ماجة ـ يذكر عن الحاكم النيسابوري أنّه قال : لم يعمل بهذا النهي أحد من المسلمين ، فهو لم يعتبر النهي تحريمياً ، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور.
وممّا يشهد أيضاً على أنّ النهي نهي كراهة هو اتّفاق المذاهب الإسلامية على جواز البناء على القبر إلّا إذا كانت الأرض موقوفة شرعاً.
يقول شارح صحيح مسلم ـ في شرح هذا الحديث ـ :
«أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه ، وإن كان في مقبرة مُسبَّلة (١) فحرام ، نصّ عليه الشافعي والأصحاب». (٢)
وممّا لا يحتاج إلى بيان هو أنّ الشيء المكروه قد ترتفع كراهيّته بالنظر إلى
__________________
(١) مُسْبَلة : موقوفة في سبيل الله.
(٢) هامش صحيح مسلم : ٣ / ٦٢ ، طبعة مصر.