الموسوي ، رضي الله عنه وأرضاه ، سألني عن هذه الآية في عرض كلام جرّ ذكرها ، فأجبته في الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك : سنعمد لعقابكم ، ونأخذ في جزائكم ، على مساوئ أعمالكم ، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى.
وهو قوله :
ألان وقد فرغت الى نمير |
|
فهذا حين صرت لها عذابا |
فقال : فرغت إلى نمير ، كما يقول : عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال : فرغت لها ، ولم يقل فرغت إليها.
وقال بعضهم : إنما قال سبحانه : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) (٣١) ولم يقل : سنعمد. لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تجميع (١) فيه ، ولا اشتغال بغيره عنه ، ولأنه لما كان الذي يعمد الى الشيء ربّما قصّر فيه لشغله معه بغيره ، وكان الفارغ له ، في الغالب ، هو المتوفّر عليه دون غيره ، دللنا بذلك على المبالغة في الوعيد ، من الجهة التي هي أعرف عندنا ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد.
وقال بعضهم : أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له ، فالمستعار منه أصل ، وهو أقوى. والمستعار له فرع ، وهو أضعف. وهذا مطّرد في سائر الاستعارات ، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) من هذا القبيل.
فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال العباد ، والمستعار له مالا يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال الله تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد ، إلّا أن الوعيد بقول القائل : سأتفرّغ لعقوبتك ، أقوى من الوعيد بقوله : سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال : سأتجرّد لمعاقبتك ، كأنه يريد استفراغ قوّته في العقوبة له.
ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب ، لأن معناه أسبق الى النفس ، وأظهر للعقل ، والمراد به تغليظ الوعيد ، والمبالغة في التحذير. ومثل
__________________
(١). التمجيع : الممازحة والمماجنة في العمل ، وعدم أخذه مأخذه الجد.