المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «الجمعة» (١)
أقول : ظهر لي في وجه اتّصالها بما قبلها : أنه تعالى لمّا ذكر في سورة الصفّ حال موسى (ع) مع قومه ، وأذاهم له ، ناعيا عليهم ذلك (٢) ذكر في هذه السورة حال الرّسول (ص) ، وفضل أمّته ، تشريفا لهم ، ليظهر فضل ما بين الأمّتين ، ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود.
وأيضا لمّا ذكر ، سبحانه ، هناك حكاية عن قول عيسى (ع) : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦]. قال هنا : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢). إشارة إلى أنه (ص) هو الذي بشّر به عيسى (ع). وهذا وجه حسن في الربط.
وأيضا ، لما ختم سبحانه تلك السورة بالأمر بالجهاد ، وسمّاه تجارة ، ختم هذه بالأمر بالجمعة ، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية.
وأيضا : فتلك سورة الصفّ ، والصفوف تشرع في موضعين : القتال ، والصلاة ، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة ، وهي الجمعة ، لأنّ الجماعة شرط فيها ، دون سائر الصلوات.
فهذه وجوه أربعة فتح الله بها.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). وذلك في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) [الصف : ٥]. وذكر في الصف عن بني إسرائيل : أنهم كذّبوا عيسى ، وكذبوا على الله ، وأرادوا يطفئوا نور الله (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) ، في الآيات [٦ ـ ٩]. ثم ذكر هنا تعليل هذا التكذيب بالغباء ، وأبطل حجتهم في أنّهم شعب الله المختار [الآيات ٥ ـ ٧].