مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ «من» في قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) [العنكبوت] ثم قيل : الآية آثار منازلهم الخربة ؛ وقيل هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.
فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الآية ٤٩] ، أي صنفين ، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟
قلنا قيل : معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى. وقيل معناه : ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، والنور والظلمة ، والخير والشر ، والحياة والموت ، والبحر والبر ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ونحو ذلك.
فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الآية ٥٠] ، وقال سبحانه ، في موضع آخر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]؟
قلنا : معنى قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي الجأوا إليه بالتوبة ، وقيل معناه : ففرّوا من عقوبته إلى رحمته ؛ ومعنى قوله سبحانه : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجّاج : معنى «نفسه» «إياه» ، كأنه قال سبحانه وتعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] أي إياه ، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.
فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) وإذا قلنا ، خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم ، فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون ، بدليل خروج البعض منه ، بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة. الثاني : أنه على عمومه ، والمراد بالعبادة التوحيد ، وقد وحّده الكل يوم أخذ الميثاق ، وهذا الجواب يختص بالإنس ، لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم في الآية. وقيل معناه : إلا ليكونوا عبيدا لي. وقيل معناه : إلا ليذلّوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدّرته