من عين صافية ، لعدم جمع السنّة النبويّة في معجم تصل إليه كلّ يد ، وظهور المسائل المستحدثة غير الموجودة في الكتاب والسنّة ، واختفاء القرائن الحاليّة المتّصلة بالكتاب والسنّة ، إلى غير ذلك من الأُمور التي دفعت أعلام الأُمّة إلى بذل الجهد في طريق استنباط الأحكام الشرعية ، وكلّما ازداد البعد عن منبع الوحي ، وكثر تطرّق الجعل والدسّ في الروايات وعروض الاشتباه والسّهو ، صار الاجتهادُ أمراً مشكلاً لا يتحمّله إلّا الأمثل فالأمثل.
ولو افترضنا أنَّ أهل المدينة مثلاً كانوا في غنى عن الاجتهاد بعد رحيل الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للتمكّن من الاتّصال بأهل البيت (عليهمالسلام) ، إلّا أنّ أهل سائر البلاد وخصوصاً البلاد الشّرقيّة يوم ذاك كخراسان ، كانوا منقطعين عن أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) ولم يكن كلّ النّاس متمكّناً من شدّ الرّحال إلى المدينة ولقاء الإمام (عليهالسلام) والسؤال منه (١).
ولذلك لم يكن بدّ من قيام جماعة تتحمّل مشقّات ومتاعب السّفر والنّفر ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ...) (التوبة / ١٢٢).
وكان المتمثل لهذا الأمر (الإفتاء) هو المجتهد الّذي يتحمّل جهوداً كثيرة للتّوصل إلى الحكم الشّرعي.
هذا وإنّ لتاريخ الاجتهاد وسَيْرهِ بين الأُمّة الإسلامية بحثاً مفصّلاً سنقوم بعرضه في بحوثنا حول تاريخ الفقه وطبقات الفقهاء الّذي هو في يد التأليف بمعاضدة فريق من الفضلاء ، وعليه ، فليس للاخباريّ أن ينكر الاجتهاد بهذا المعنى الّذي فرضته الضرورات الاجتماعيّة على ذوي المواهب ، وهنا فصلان ، فنقول :
__________________
(١) روى عليّ بن المسيّب الهمدانيّ قال : قلت للرّضا (عليهالسلام) : شقتي بعيدة ، ولستُ أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال (عليهالسلام) : من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدّين والدّنيا ، قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم ، فسألته عمّا احتجت إليه. الوسائل : ١٨ / ١٠٦ ح ٢٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.