بعث النبي معاذاً إلى اليمن وقال له : «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال : بسنّة رسول الله ...» (١). أتظنّ أنّ معاذاً كان مسلّطاً على جميع الأحكام الشرعية يوم ذاك.
وقد كتب الإمام عليّ بن أبي طالب ـ (عليهالسلام) إلى واليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) في عهده : «ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه (٢) الخصوم ـ إلى أن قال (عليهالسلام): ـ وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ...» (٣) فهل كانت مصر آنذاك تطفح بفقهاء ومجتهدين مسلّطين على جميع الأحكام الشرعية؟ نعم كانوا يحفظون من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء أشياء يقضون ويحكمون بها ، فلو كان الاجتهاد المطلق شرطاً ، لعطّل باب القضاء في مصر.
نعم كلّما تقدّمت الحضارة الإسلامية وتفتّحت العقول ، وازداد العلماء علماً وفهماً ، وعدداً وكميّة ، تسنّم منصب القضاء من له خبرة كاملة في الفقه وعلم بحدود الشريعة علماً محيطاً ، إلّا أنّ ذلك ليس بوازع دينيّ ، بل كان نتيجة لسير العلم وتقدّمه وازدهار الثقافة.
نعم أخذ القضاء في عصرنا لوناً فنياً ، وصار عملاً يحتاج إلى التدريب والتمرين.
فلا مناص عن إشراف قاض ذي تجربة وممارسة ، على عمل القضاة المتجزّءين في الاجتهاد حتى تحصل لهم قدم راسخة لا تزلّ بفضله سبحانه.
__________________
(١) جامع الأُصول من أحاديث الرّسول لابن الأثير : ١٠ / ٥٥١ رقم ٧٦٥١ ، الفصل السادس : في كيفية الحكم.
(٢) أمحكهُ : جعله محكان أي : عسر الخلق ، لجوج.
(٣) نهج البلاغة : ٢ / ٩٤ رقم ٥٢ قسم الكتب والرّسائل ، شرح الشيخ محمد عبده.