فالآية الأولى والثانية بصدد بيان خصوصيّات الحكم (لا الحاكم) وأنّه يجب أن يكون حكماً بالعدل وقضاءً بالقسط ولا يخاف الحاكم من شنآن قوم فيحكم على خلافهما (العدل والقسط) ، وأين هما من بيان خصوصيّات الحاكم حتّى يتمسّك بإطلاقهما.
ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية الثالثة فإنّها بصدد النهي عن القضاء بغير ما أنزل الله لا بصدد بيان خصوصيّات الحاكم (١).
ومثل الآيات تقسيم القضاة إلى أربعة ، أو تقسيم الحكم إلى حكمين ، فإنّ الجميع بصدد سوق المجتمع إلى القضاء بحكم الله لا بحكم الجاهليّة ، لا لبيان شرائط الحاكم وخصوصيّاته من كونه رجلاً أو امرأة ، مسلماً أو كافراً ، سميعاً أو بصيراً ، مجتهداً أو مقلِّداً كما هو النزاع.
__________________
(١) وكذلك ما قيل في استفادة جواز التصديّ من إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف حيث إنّ القضاء من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكفي في جواز تصدّيه إطلاقات أدلّتها نظير قوله تعالى : (والمُؤمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْض يَأمروُنَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر) (التوبة ـ ٧١).
يلاحظ عليه : أنّ مورد أدلّتهما هو الدّعوة إلى التكليف الثابت للمكلّف مع قطع النظر عن قضاء القاضي ، كما إذا رأى إنساناً يغتاب أو يكذّب أو يظلم ، وهذا هو الذي يجب على المؤمن والمؤمنة ضمن شرائط ، وأمّا التكليف الّذي يقتضيه حكم القاضي بحيث لولاه لما كان هناك تكليف ، لا تشمله الأدلّة العامّة للأمر بالمعروف ، مثلاً إذا اختلف العامل والمالك فقال الأوّل : رددت رأس المال ، وأنكره المالك ، فليس هنا أيّ تكليف متوجّه إلى العامل بعد ادّعاء ردّ المال وإنمّا يتوجّه إليه التكليف بالردّ بعد القضاء بأنّ القول قول المالك مع حلفه ، فعندئذ يتوجّه تكليف بالردّ بعد ما لم يكن أيّ تكليف قبل القضاء فمثل هذا ليس مشمولاً لأدلّتهما.
وإن شئت قلت : إنّ مورد أدلّتهما ما إذا اتفق الآمر والمأمور على وجود التكليف فيقوم أحدهما بالدّعوة لا ما إذا أنكر أحدهما أصل التكليف كما هو الحال قبل القضاء (منه حفظه الله).