نعم ، ربّما يكونُ رأي المتجزّي أقرب إلى الواقع من المطلق ، كما إذا بذل جهده في باب أو أبواب مترابطة سنين ، وبرز وبرع وظهرت مقدرته فيه أو فيها ، وإذا كانت الفقاهة أمراً قابلاً للتفصيل فهذا المتجزّي أكثر فقاهة من المطلق الّذي صرف عمره في جميع الأبواب ، ولم يتوفّق للدّقة والإمعان في كلّ باب بحسبه.
وقد مضى أنّ مبادئ الاستنباط في العبادات غيرها في المعاملات ، وأنّ كلاً يحتاج إلى شيء لا يحتاج إليه الآخر ، بل يحتاج إلى أمر آخر ، فلا مانع أن يكون رأي المتجزّي الملمّ في العبادات مثلاً أقرب إلى الواقع من المطلق الملمّ في جميع أبواب الفقه إلّا أنّه لم تظهر الدقّة والبراعة القويتين منه.
فإن قلت : قد مضى أنّ المقبولة والمشهورة المتقدّمتين غير آبيتين عن الرّجوع إلى المتجزّي إذا استنبط مقداراً معتدّاً به من الأحكام ، وجازَ قضاؤه ونفذ حكمه ، فلما ذا لا يجوز أخذ الفتوى منه؟
قلت : إنّ مورد الروايتين هو القضاء والحكومة وهما غير أخذ الفتوى ، وعدم اشتراط الاجتهاد المطلق فضلاً عن الأعلمية في نفوذ القضاء ، لا يكون دليلاً على عدم اشتراطهما في الفتوى ، ضرورة أنّ اشتراط الأعلمية في القاضي موجب لسد باب القضاء في وجه الأُمّة إلّا في بلد يعيش فيه الأعلم ، وهو واضح البطلان بخلاف اشتراطهما في أخذ الفتوى أو المفتي ، فإنّ فتواه تكفي لجميع الأُمّة.
وأمّا الثالث : وهو نفوذ قضائه ، فقد عرفت حقّ الكلام فيه ، فلا نعيد.