ويجوز أن يكون مآلهما جميعا ، والله أعلم.
ثم المباهلة في المتعارف إنما هي المحاجة في بلوغ العناد والتمرد غايته ، فكأنه لما قررت عندهم جميع الحجج فلم يقبلوها أمره بالمباهلة ؛ فلم يباهله اليهود والنصارى ؛ لأنه يجوز أن قد كان في كتابهم هذا أن المباهلة من غاية المحاجة وأن من باهل ، نزل عليه العذاب واللعنة إن لم يكن محقّا ؛ فلذلك امتنعوا من المباهلة ، وأما العرب من المشركين فلم يكن لهم كتاب يعرفون به حكم المباهلة فباهلوا ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يقول : «اللهم انصر أحبنا إليك وأقرانا للضيف وأوصلنا للرحم» (١) فنصر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم ، فأبو جهل باهله ؛ لأنه لم يكن له كتاب ، ولم يباهله اليهود والنصارى ؛ لما كانت لهم كتب عرفوا فيها حكم المباهلة ، والله أعلم.
وقوله : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).
هذه الآية تدل على رسالة رسولنا صلىاللهعليهوسلم لأنه لو كان يقوله من نفسه ، لكانوا يبادرون فيتمنون الموت للحال ؛ ليظهر كذبه فيه ، فلما أخبر أنه لا يتمنونه أبدا ، ولم يتمنوا ، تبين أنه قال من الوحي ، وأنهم علموا ذلك حتى امتنعوا عن التمني ؛ خوفا للهلاك على أنفسهم ؛ لعلمهم أنهم لو تمنوا لماتوا ، والله أعلم.
وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).
أي : من تحريف التوراة والإنجيل ؛ لأن قول النصارى : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] لم يكن في الإنجيل ، وقول اليهود : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] لم يكن في التوراة ، ولكنهم غيروا وبدلوا ؛ فلا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم من تحريف هذه الآيات وتبديلها وتغيير نعت محمد ، عليه الصلاة والسلام.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
يعني : بظلمهم الآيات ، وعنادهم لها ، ومكابرتهم إياها.
وقوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ).
أي : الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف التوراة والإنجيل يلقاكم لا محالة وإن فررتم منه ؛ فيكون فيه تذكيرهم إن رجعوا عما يهربون منه ، يعني : الموت.
وقوله : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).
يعني : إلى عالم ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل ، وعالم ما غيبتم عن الخلق من
__________________
(١) تقدم.