ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث ؛ لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر ؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق الله تعالى ؛ ليتقرر عنده عظمة الله تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم قد كان تقرر عنده علم ذلك كله ؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر ؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث ، فأمروا بالنظر فيما ذكر ؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره ، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة (١) بقوى البشر ، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم ، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكما لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم ، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث ؛ فيحملهم على الإيمان.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ).
سماها : سماء الدنيا ؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين ، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا : أن مقابل الآخرة (٢) ليست هي الدنيا (٣) بل مقابلها الأولى ، ومقابل الدنيا القصوى ؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة ، والمصابيح هي النجوم ، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم ، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم :
أحدها : أنه جعلها زينة للناظرين ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر ١٦] ، ثم هذه الزينة إنما تظهر عند ما تخفى على الناظرين زينة الأرض ، وذلك في ظلم الليالي ؛ فأبدل الله لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض ، وفضل هذه الزينة على سائرها ؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها ، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد ؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض.
والنعمة الثانية : ما ذكر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧] ؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك.
والنعمة الثالثة : ما ذكر من قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور ، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء ، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض ، فيسترقون السمع منهم ، فيأتون بها أهل
__________________
(١) في ب : بمقدورة.
(٢) في أ : الدنيا.
(٣) في أ : الآخرة.