وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
فهذه الآية كأنها في إلزام الوعيد ؛ يقول : إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور بما يضمرون فيها ، وما يودعون ، وما يكتمون ، وما يخبرون عما أودعوا فيها ويظهرون.
والصدر : هو ساحة القلب ، سميت صدرا ؛ لأن الآراء تصدر عنها ؛ فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم ، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).
تأويله عند أهل الإسلام : ألا يعلم من خلق ما (١) أسروا أو جهروا ، و (من) راجع إلى الله تعالى دون الخلق ، كأنه يقول : ألا يعلم الخالق (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر ؛ فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد.
وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم : إن حرف (من) لا يرجع إلى الله تعالى ، وإنما يرجع إلى الخلق ؛ فكأنه يقول : ألا يعلم الله من خلق ؛ على إضمار اسم الله تعالى فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال ؛ لأن حرف (من) يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال.
وذلك فاسد ؛ لأن الآية في موضع الوعيد ، ولو كان قوله : (مَنْ خَلَقَ) راجعا إلى الأنفس ، لزال موضع الوعيد ؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم الله بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم ، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال ؛ ولأنه لو لم يكن الله تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه لم يكن ليحتج به على عمله ؛ إذ قد يجوز جواز الجهل من غير الذي يفعله ؛ فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره ؛ ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس إثبات العلم بما أسروا أو جهروا ، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان إيجاب الخلق لأفعالهم ، ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا أو جهروا ؛ لأن قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) مذكور على أثر قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ، وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : عليم بما تسرون وما تجهرون ؛ فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا أو جهروا ، ثم إن الناس على اختلافهم اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة مخلوق لله تعالى ، وإنما اختلفوا في الفعل الواقع بكسب العبد : فمنهم من أثبت فيه الخلق وهو قول أهل الهدى ، ومنهم من أبى القول بخلقه.
ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في العمل الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك العمل ، ولا يتهيأ له أن يستعمله في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك ؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه ، أو يسمع بهما لم يملك ذلك ؛ فثبت أنه ملك استعمالهما في القبض
__________________
(١) في أ ، ب : مما.