وأجاب لمن كان نسبه إلى الجنون ؛ لما خاطر بروحه ونفسه بقوله (١) : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] ، فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة (٢) ، فهو يقوم بما أمر ، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس ، ثم ـ بحمد الله تعالى ـ لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه ولا تمكنوا من المكر به ، بل أظفره الله تعالى عليهم حتى قتلهم ورد كيدهم في نحورهم ؛ فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته ، والله الهادي.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ).
قال الحسن : أي : لا يمن عليك المنة التي تؤذيك ، ولكن يمن عليك منة رحمة وكرامة ، والمن المؤذي كما ذكر ـ عزوجل ـ : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، فليس لأحد عليك منة تؤذيك.
وقال بعضهم (٣) : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ، أي : إن أجرك غير مقدر بالأعمال حتى يجري بقدر الأعمال ، فإذا انقطعت الأعمال انقطع الأجر وانقرض ، بل يتتابع عليك ويدر ، يقال في الكلام : مننت الحبل ، أي (٤) : قطعته.
وقال بعضهم (٥) : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير محسوب ، أي : لا نحسب عليك النعم ؛ فتفنى بفناء الحساب.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
خلقه العظيم : هو القرآن ، ومعناه ما أدبه القرآن ؛ وذلك كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ؛ وكقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦] ؛ وكقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] ، فأخذه بالعفو وأمره بالعرف ، وإعراضه عن الجاهلين ، ودفعه السيئة بالتي هي أحسن ، وخفضه الجناح للمؤمنين ـ من أعظم الخلق. وتخلق بهذا كله بما أدبه القرآن ، والله أعلم.
وقال بعضهم (٦) : الخلق العظيم : هو الإسلام ، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى ، وقد استسلم لذلك ، وسلم الناس من لسانه ويده ، ومن كل أنواع الأذى ، وذلك من أعظم الخلق.
__________________
(١) في ب : وقال.
(٢) في ب : والإنذار.
(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ١٧٩)
(٤) في ب : إذا.
(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٥٥٥).
(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٥٥٧).