ذلك.
فإن كان النون اسما من أسماء الله تعالى ، فالقسم به قسم بالله تعالى ، وإن كان على غيره من الوجوه التي ذكرناها ، فالقسم جار بما به قوام سائر الخلق ومصالحهم ، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما يقصد من الأمر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).
فموضع القسم هذا أقسم بما ذكر (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) : [ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ؛ وهذا](١) يحتمل أوجها :
أحدها : أي : نعمة ربك (٢) حفظتك عن الجنون ؛ فنفى عنه الجنون بقوله : ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ، وهذا كما يقال : ما أنت بحمد الله بمجنون ، يراد به نفي الجنون.
والثاني : أنك لست ممن خدعته النعمة واغتر بها حتى شغلته عن العمل بما له وعليه ، والمجنون في النعمة هو الذي غرته النعم وألهته عن التزود للمعاد.
أو ما أنت بغافل عن نعمة [السيد ، وهو الرب ـ جل جلاله ـ](٣) بل تذكرها وتشكر الله تعالى عليها ، والمجنون من غفل عن النعمة وأعرض عن شكرها.
ثم الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون : إما لما كان يغشى ؛ لثقل الوحي ، فكانوا ينسبونه لهذا ، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حيث خالف أهل الأرض ، وفيها الجبابرة والفراعنة ، وانتصب لمعاداتهم ، ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه وانتصب لمعاداته ، فذلك منه في الشاهد جنون ، فأجاب الله تعالى للفريقين جميعا : أما للأول بقوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ : ٤٦].
أي : كيف تنسبونه إلى الجنون وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيهم بحكمة وموعظة يعجز (٤) حكماء الجن والإنس عن إتيان مثله ، وليس ذلك من علم المجانين ، ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون ؛ لأن المجنون إذا أفاق من غشيته ، تكلم (٥) بكلام لا يعبأ بمثله ، ولا يكترث له.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) زاد في ب : أي.
(٣) بدل ما بين المعقوفين في أ : ربك.
(٤) زاد في ب : عنها.
(٥) في ب : يتكلم.