هذه الآية ، ويستذكره ؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة ؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم [ولا تجوز الشهادة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم] أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار ، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا.
ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك ، لكان لا معنى للنهي ؛ فإنه ليس فيه ما يثبت (١) مقالتهم ، ويصحح تأويلهم ، ويسوغ لهم الشهادة ؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى (٢) فيقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، ولا تفعل كذا ، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل ، ولا تقدم منه تحريك لسان ؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا.
هذا إذا ثبت أن قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤] على النهي ؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي ، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية : أن قد كفيت مئونة الاستذكار للحفظ (٣) ، وهذا من عظيم (٤) آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه ؛ فيحفظها كما هي ، مما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا ، ويجتهدوا في ذلك ؛ فيعلم بهذا أن الله ـ عزوجل ـ هو الذي أقدره على ذلك ، وجعله آية من آياته ، والله أعلم.
ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا ، نظر في ذلك الكلام :
فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام ، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام ، بل يشتغل بالتقائه (٥) وتحفظه ساعة ما يلقى إليه ، كمن ينشد بين يدي آخر شعرا ، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه ، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره ، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه ؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها ؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا.
وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه ، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى ، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام ؛ ليفهم معناه ، وما يراد به ؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره ؛ ليعرف مراد الكتاب ، لا أن يشتغل بضبط ما أودع فيه من الألفاظ ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ.
__________________
(١) في ب : ثبت.
(٢) في ب : ينتهي.
(٣) في ب : للتحفظ.
(٤) في ب : عظم.
(٥) في أ : بإتقانه.