القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته» (١) وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية ، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ، وذلك غير مستقيم لوجهين :
أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة ، ولو كان المراد من الرؤية العلم ، لارتفع الاختصاص ؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين.
ولأن كلا يجمع على العلم بالله تعالى في الآخرة ، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب ، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة ، لا علم الاستدلال ؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ..). [الأنعام : ١١١] ، وقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) [المجادلة : ١٨] ، فإذا ثبت ما ذكرنا ، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها ؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى ، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة ؛ وهو يرى بلا كيف ، والله الموفق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا.
وجائز أن يكون على حقيقة الظن ، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء ، فالأسباب إذا كثرت ، وازدحمت ، وقع بها العلم ، وإذا قلت وخفيت ، لم يقع بها علم ؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة ، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس ؛ فيتوقع النجاة ، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة ، بل يكون منه على ظن ، والله أعلم.
والفاقرة : قيل (٢) : الشر ، والمنكر ، والداهية.
وقيل : الفقير : هو كسير الظهر ، والفقر : الكسر ، والفقار : عظم في الظهر يكسر ، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.
__________________
(١) أخرجه البخاري (٢ / ٣٣) كتاب مواقيت الصلاة ، باب : فضل صلاة العصر (٥٥٤) ، ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد ، باب : فضل صلاتي الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣).
(٢) قاله مجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير عنهما (٣٥٦٧١ ، ٣٥٦٧٢) وذكر السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٤٧٧) طرقا أخرى عنهما.