التي تذكر في قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣].
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) :
أي : أنعم به من قادر ؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم ، أي : إن الذي فعل بكم هذا هو الله ـ تعالى ـ لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) :
جائز أن يكون هذا صلة قوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) و (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً).
فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم ، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة.
فوجه تذكير (١) النعم : أن الله ـ تعالى ـ في أول ما أنشأه ، أنشأه نطفة قذرة ، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق ، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر ، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة ، لم يفوض تدبيره إلى أحد من خلائقه ؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر ، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير ؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق ، ثم لما أنشأه نسمة ، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف ؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه (٢) ، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها ؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين ؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير ؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم ؛ ليصل إلى أداء شكره.
أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة ؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد؟ فرفع عنهم مئونة التربية في ذلك الوقت ، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه ، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته ، أخرجه من بطن الأم ، وفوض تدبيره إلى أبويه ؛ فهذا وجه تذكير النعم ، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة ، وهو أن الله تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة ، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة ، ولو أراد الخلائق (٣) أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم ، ثم يكون منها نسمة سوية ـ لم يصلوا إلى معرفته ،
__________________
(١) في أ : التذكير.
(٢) في ب : مصالحها.
(٣) في أ : الخلق.