ثم [إن](١) أهل التوحيد أقروا بالعذاب ، فاجتهدوا (٢) في اتقائه ، فقيل لهم : انطلقوا إلى ظلال وعيون ؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب ، فقيل لهم : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المرسلات : ٢٩] من العذاب.
ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته ، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [فصلت : ٦] ، وقال : ـ تعالى ـ : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، وقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، فألزمنا الفزع إليه ، وبين أنا لا نقوى على محاربته إلا بالابتهال إليه والفزع.
ثم يحتمل أن يكون الاتقاء هاهنا منصرفا إلى التصديق خاصة ؛ لأنه ذكر الاتقاء هاهنا مقابل التكذيب في الأولين.
وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال ، والموفين (٣) بالأعمال ؛ فالمتقي : هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم الله تعالى فوقاه الله ـ تعالى ـ شر يوم القيامة ، مجازاة له ، والمحسن : هو الذي أحسن صحبة نعمه ، فأحسن الله منقلبه ، وأحله بدار كرامته ، في ظلال وعيون وفواكه.
أو المتقي : هو الذي وقى نفسه عن المهالك ، فوقاه الله تعالى يوم القيامة ، والمحسن : هو الذي أحسن إلى نفسه ، وهو الذي استعملها في طاعة الله تعالى ؛ فأحسن الله إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيون.
ثم أخبر أنهم في ظلال ؛ لأن الظلال مما (٤) ترغب إليه الأنفس في الدنيا ؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح ، وغير ذلك ، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر ، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر ، وهي لا تحول ـ أيضا ـ بين المرء والأشياء ، عن أن يدرك حقائقها ؛ فعظمت النعمة في الظلال ، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) ، وقال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ) [الواقعة : ٣٠ ، ٣١] ، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال ، اشتهت ما تتمتع به الأبصار ، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية ؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : فأجهدوا.
(٣) في أ : الموقنين.
(٤) في ب : فيم.