الهداية على البيان ، وإذا كان كذلك وقد بين الله تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا ، فإذن قد أضله ؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم.
ثم ليس في قوله : (قَدَّرَ فَهَدى) نفي الإضلال ؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفى ذلك عما عداه ؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه ، وقد ذكر في موضع آخر المكرمين بالهدى ؛ فقال : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الآية [البقرة : ١ ، ٢] ؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص ؛ فقوله : (قَدَّرَ) ، أي : قدر لخلقه معايشهم ، وهداهم وجه أخذ المعيشة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) : في هذه الآية تعريف الرب الأعلى ؛ كأنه يقول : الرب الأعلى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى).
ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره ؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدأها ولا انقضاءها ، وهي السموات والأرضون ؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل ، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر ، وفضل بصر ، وزيادة تأمل.
وجائز أن يكون خص المرعى بالذكر ؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق ؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام ؛ للتعيش ، والدواب (١) حياتها بالمراعي ؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي ، فذكرهم هذا ؛ ليستأدي (٢) منهم الشكر ؛ إذ كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها ، وإنما أنشئت للخلق ؛ ليتمتعوا بها ، ثم الله ـ تعالى ـ بفضله أنشأ للدواب مراعي ، وقدر لها أوقاتها ، ولم يضيعها ، فكيف يضيع هذا الخلق ، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم ، فلا يرزقهم ، ويخرجهم من تدبيره
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) قيل : الغثاء : اليابس الذي تحمله السيول والأمطار (أَحْوى) أي : أسود من قدمه.
وقيل : الأحوى : هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد ، وهو على التقديم والتأخير ؛ أي : جعله غثاء بعد ما كان أحوى.
__________________
(١) في ب : فالدواب.
(٢) في ب : استأدى.