وقال بعضهم (١) : خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال.
ولقائل أن يقول : أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم ، وكل يعلم أنه خلق كذلك؟
فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا ، بل خلقهم الله تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة ، كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].
فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله : أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا ، وخلقهم للشدة ؛ ليعتبروا ويتذكروا.
وإن كان منصرفا إلى الانتصاب ، ففيه تعريف لعظم نعم الله ـ تعالى ـ عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك ؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك.
وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال ، ففيه أن الله ـ تعالى ـ قادر على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء ؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحدا ، فيجعل أعلاه أسفله ، إلا أن يجد مثله في المكان سعة ، ثم إن الله ـ تعالى ـ قلبه ، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق ، فتبين لهم ألّا يعجزه شيء ؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور ، والله أعلم.
ومعنى قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) عندنا : لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد ، فإن كانت مكابدته في طاعة الله تعالى ، وكان مؤثرا لها ـ فقد خلق للجنة ، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان ، فهو للنار خلق ، وعلى هذا يخرج قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ، أي : ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم ، وذرأ من يعلم أنه يعبد الله ويوحده للعبادة بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. والأصل : أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة ، فأما (٢) من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة ، فإن كانت عاقبته النار ؛ فابتداء الخلق من الله ـ تعالى ـ يقع لذلك الوجه ، وإن (٣) كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق ؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله ـ عليهالسلام ـ : «السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه» وهو لا يوصف بالسعادة
__________________
(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة من طريقين عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٣ ، ٥٩٤).
(٢) في ب : فلما.
(٣) في ب : فإن.