يعني أعطاه وجوده واستعداده وقابليته ، ثم سبّب الأسباب لوصوله إلى مراتب الكمال للتحقق بحقيقة الإقبال ، وأمّا اختلاف المربوبات من أصناف الكائنات فإنما هو مستند إلى اختلافهم في اختياراتهم وقبولهم في بقعة التكوين وصقع التشريع بعد أن بيّن لهم سبيل الخير والشر ، وأمرهم في الموقفين بارتكاب الخيرات واجتناب الشرور (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١).
وأما ما ربما يقال من استناد الاختلاف إلى مراتب الاستعدادت وإمكانات الأشياء في أنفسها بالذات وعدم تعلق الجعل بالإمكان لكونه من الأمور الاعتبارية ففساده واضح عندنا بعد القول بالّتوحيد ونفي الشريك ، إذ كان الله ولم يكن معه شيء ، وهو أمكن الإمكان حيث لا إمكان ، وهي بقسميها خلقها الله بنفسها وخلق بها الإمكان والأكوان والإمكانات بعد تسليم كونها أعداما المقيدة وإن تمايزت من حيث القيود أو التقيدات إلا أنها معتبرة حينئذ باعتبارات وجودية.
فما قيل من أن إمكان الألف مثلا مغاير لإمكان الواو ، لاعتبار الاستقامة في الأول ، والاعوجاج في الثاني ، ولو أنّ الكاتب كتبهما على غير هذا الوجه فكأنه لم يكتبهما لأن ما بالذات لا يتخلف بل الذات لا تتبدل.
ففيه : أن هذا الاختلاف المستند إلى الإمكان بل نفس الإمكان إن كان مجعولا من الله سبحانه ولم يكن قبل ذلك شيئا أصلا فهو المطلوب ، وإلا فلا بد أن يكون ثابتا في القدم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا هو القول بالأعيان الثابتة الذي أسّس عليه بناء القول بوحدة الوجود وتشعّبت منه أنواع الزندقة والجحود ، قال قائلهم وهو عبد الرحمن الجامي (٢) :
__________________
(١) الأنفال : ٤٢.
(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد الجامي الشيرازي توفي سنة (٨٩٨) ه.