وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة ، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم : « أحمد بن حنبل » ، و« محمد بن نوح » ، و« القواريري » ، و« سجادة » فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما : ابن نوح وأحمد بن حنبل ، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون ، ومات الأوّل في الطريق ، وبقي أحمد ، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن ، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة المأمون في مسألة خلق القرآن. (١)
ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين ، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.
وقال محقّق كتاب« الأُصول الخمسة » للقاضي عبد الجبار : الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة ، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، وكان شعار النظريتين المتنازعتين« هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون ، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد ، وذهب ضحية الخلاف كثيرون ، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس ، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة ، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية ، مع أنّهم روّادها الأوائل.
أقول : و (٢) ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وكم في تاريخ خلفاء
ــــــــــــــــــ
١ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : ٢٩٤ ـ ٢٩٦ بتلخيص.
٢ ـ الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ٥٢٧.