إنّ الاطّلاع التفصيلي على ملامح وسمات مذهب الإمام الأشعري يتطلب سبر أغوار كتبه على الوجه التفصيلي ، وعرض آرائه وأنظاره ، غير أنّا هنا نركز على أمرين رئيسيّين يميّزان ذلك المذهب عمّا تقدمه من مذهب المحدّثين ، وإليك بيانهما :
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية ، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ ولا يكادون يعتمدون على السنة ، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء ، لا غفران ذنوب الفاسقين.
وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد ، وينكرون العقل ورسالته في مجالها ، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول ، فكيف في الفروع ، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.
وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين ، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة ، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.
كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام ، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية ، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث ، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث ، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام (١). وبذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب
ــــــــــــــــــ
١ ـ طبعت الرسالة لأوّل مرّة مع اللمع في بيروت عام ١٩٥٣م ، ومستقلة في حيدر آباد الدكن في الهند عام ١٣٤٤ هـ ، وسيوافيك نصها.