(١)
استدلاله على وجود الصانع سبحانه
قال : الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ، ثمّ علقة ، ثم مضغة ، ثم لحماً ، ودماً ، وعظماً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال ، لأنّا نرا هـ في حال كمال قوته وتمام عقل هـ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة ، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك ، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال ، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.
ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل ، إلى الفتل ، إلى الثوب ، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان ، فلو دلّ ذلك على وجوده ، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة ، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال ، وقد قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) (١). وقال سبحانه : (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع
ــــــــــــــــــ
١ ـ الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩.
٢ ـ الذاريات : ٢١.