صنعهم ومدبر دبرهم. (١)
يلاحظ على هذا الدليل :
أوّلاً : أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت ، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة ، أو حاجة الحادث إلى السبب.
وبعبارة أُخرى : معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل ، والاستدلال به ما أمكن.
ثانياً : أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة ، فهو في حال العجز أولى.
وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه ، في جمل في غاية الفصاحة فقال : « أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشغف الأستار ، نطفة دهاقاً ، وعلقة محاقاً ، وجنيناً وراضعاً ، ووليداً ويافعاً ، ثمّ منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً ». (٢)
ثالثاً : أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة ، من أجل إقناع عامة البشر ، مؤمناً كان أم كافراً ، ولا يكتفي بالتعبّد ، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً ، وللتعبّد مكاناً آخر ، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان ، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته ، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه ، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.
ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء بأمر غير تام ، فاستدلّ على أنّ
ــــــــــــــــــ
١ ـ اللمع : ١٨.
٢ ـ نهج البلاغة : ١/١٤٠ ، الخطبة ٨٠ ، ط مصر.