عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية ، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه وبين « أبي القاسم بن برهان » في مسألة أفعال العباد؟
قال القاسم : هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي : إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك ، فتلا (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ) (١) ومدّ بها صوته وكرر « هم لها عاملون »و قوله : (لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٢) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال : والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت. (٣)
ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد ، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.
ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع ، وأُصول المذهب ، وقوة مناظرته ، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً. (٤)
٢ ـ ما نقل عنه في كتاب البرهان قال : « إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات »وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة ، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة ، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.
٣ ـ قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط ، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.
ــــــــــــــــــ
١ ـ المؤمنون : ٦٣.
٢ ـ التوبة : ٤٢.
٣ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٦٩و « أكلّه » : أعياه.
٤ ـ نفس المصدر : ١٨/٤٧١.