فيه ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فأبى واعتذر قائلاً : ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه ، فعفاه ، وقال : أنشدني شعرا أستحسنه ، فقال : إني قليل الرواية للأشعار. فقال : لابد أن تنشدني. فأنشده :
باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم |
|
غلب الرجال فما أغنتهم القللُ |
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم |
|
وأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا |
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا |
|
أين الأسرةُ والتيجانُ والحللُ |
أين الوجوه التي كانت منعّمة |
|
من دونها تضرب الأستار والكللُ |
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم |
|
تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ |
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا |
|
فأصبحوا بعد طول الإكل قد اُكلوا |
وطالما عمّروا دورا لتحصنهم |
|
ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا |
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا |
|
فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا |
أضحت منازلهم قفرا معطّلة |
|
وساكنوها إلى الأجداث قد نزلوا |
قال : فأشفق كلّ من حضر على عليّ ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : واللّه لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، ثمّ أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردّه إلى منزله من ساعته مكرما » (١).
وهكذا لم يكن المتوكل وبطانته يتوقعون أن الإمام عليهالسلام سوف يصفعهم بمثل
__________________
(١) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، وراجع أيضا : تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣ : ٢٧٢ ، الأئمّة الاثنا عشر / ابن طولون : ١٠٧ ـ منشورات الرضي ـ قم.