والاولى في هذا الباب وأمثاله كثيرة فاعرفها .. واعلم ان في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل وزيادة نظر وتدبر ، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور ، وبالإعجاز من أبيات الشعر ..فمما جاء من ذلك قوله تعالى في حق المنافقين : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا ) إلى قوله : ( وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ). وقوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا ) إلى قوله : ( وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) ألا ترى كيف فصل الآية الأخيرة بيعلمون ، والآية التي قبلها بيشعرون ، وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة والعلم ، ولذلك قال ـ ولكن لا يشعرون ـ وأما النفاق وما فيه من المعنى المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيويّ مبنيّ على العادات معلوم عند الناس ، خصوصا عند العرب ، وما كان فيهم من التجارب والتعاون فهو كالمحسوس عندهم ، فلذلك قال ـ يعلمون ـ وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة ، وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال ـ لا يعلمون ـ وآيات القرآن العظيم جميعها فصلت هكذا كقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ). وقوله : ( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ). وكقوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) فإنه إنما فصلت الآية بلطيف خبير ، لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، ولأنه خبير بمنفعتهم ومضرتهم في انزال الغيث وغيره. وأما الآية الثانية فإنما فصلت بغني حميد لأنه له ما في السموات ، وما في الأرض ، فعرف الناس أن جميع ما في السموات وما في الأرض له لا لحاجة ، بل غني عنها جواد بها لأنّ ليس غنيّ نافعا