واعلم أنّ مذهب جمهور الأشاعرة جواز الانعكاس. وأمّا مذهب بعضهم ـ كالفاضل المدقّق بدر الدين الزركشي ـ فهو أنّ الحسن والقبح ذاتيان والوجوب والحرمة شرعيان ، وأنّه لا ملازمة بينهما ، فقال في شرح جمع الجوامع :
تنبيهات :
الأوّل : المعتزلة لا ينكرون أنّ الله تعالى هو الشارع للأحكام ، إنّما يقولون : إنّ العقل يدرك أنّ الله تعالى شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهما عندهم مؤدّيان إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسنا جوّزه الشرع وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما عقلي ، والآخر شرعي تابع له. فبان أنّهم لا يقولون : إنّه بمعنى العقاب والثواب ليس بشرعي أصلا ، خلافا لما توهّمه عبارة المصنّف وغيره.
الثاني : ما اقتصر عليه المصنّف من حكاية قولهم هو المشهور. وتوسّط قوم
______________________________________________________
وأنّ كلّ إنسان عاقل إذا رجع فكره وتعقّله يحصل له القدر الواجب من ذلك ، وهو أمر يشهد به الوجدان ويمنع ذلك كلّه ـ فساده ظاهر ، لأنّه يلزم على ما اعتقده أن لا يحسن من الله تعالى مؤاخذة من لم يحصل منه هذه المعارف إذا لم يمنحه بها. ولم يتنبّه أنّ الواقع في ظاهر بعض الأحاديث ممّا يخالف المذهب المتّفق عليه كثير في باب الأفعال والآجال والأرزاق والهداية ، وأنّه لا بدّ من تأويلها بما يوافق العقل والحقّ ، كما وقع نظيره في القرآن الشريف. وباب اللطف من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتخصيصه لبعض عباده به لحكمة خفيّة تقرّبه إلى الطاعة لا مساغ لإنكاره ، لكن ليس ذلك هو السبب التامّ في حصول الهداية ولولاه لما أمكن حصولها ، لأنّ الله ـ سبحانه ـ قد مكّن العبد من تحصيلها بدون ذلك. وعلى هذا المعنى تحمل الأحاديث الدالّة بظاهرها على نسبة الهداية والإضلال والأفعال وما شابه ذلك إليه ـ سبحانه وتعالى ـ حتّى لا يلزم صحّة قول المجبّرة المعلوم البطلان.
وأمّا الأحكام الشرعيّة التكليفيّة فالمعلوم رجوعها إلى الشارع ، وقد علمنا منهم عليهمالسلام بالنصّ : أنّ كلّ ما يصل إلينا التكليف به تعيّن ، وما لم يصل فهو موضوع عنّا ، وأنّ كلّ ما لم يرد فيه نهي فهو مباح ، ووضعه عنّا وإباحته كلاهما من الأدلّة الشرعيّة المستفادة من النصّ. والمصنّف يمنع ذلك من غير دليل.