على ذلك أنّه قد ثبت في العقول أنّ الإقدام على ما لا يأمن المكلّف كونه قبيحا مثل إقدامه على ما يعلم قبحه. ألا ترى أنّ من أقدم على الإخبار بما لا يعلم صحّة مخبره جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأنّ مخبره على خلاف ما اخبر به على حدّ واحد ، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلّة على حسن هذه الأشياء قطعا ينبغي أن نجوّز كونها قبيحة وإذا جوّزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها.
فإن قيل : نحن نأمن قبحها ، لأنّها لو كانت قبيحة لم تكن إلّا لكونها مفسدة ، لأنّه ليس لها جهة قبح يلزمها ، مثل الجهل والظلم والكذب والعبث وغير ذلك ، ولو كانت قبيحة للمفسدة لوجب على القديم أن يعلمنا ذلك وإلّا قبح التكليف ، فلمّا لم يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك وذلك يفيدنا الإباحة.
قيل : لا يمتنع أن تتعلّق والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل على التفصيل ، فيقبح الإعلام ويكون المصلحة لنا في التوقّف في ذلك والشكّ وتجويز كلّ واحد من الأمرين ، وإذا لم يمتنع أن تتعلّق المصلحة بشكّنا والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل لم يلزم إعلامنا على كلّ حاصل وصار ذلك موقوفا على تعلّق المصلحة بالإعلام أو المفسدة بالشكّ ، فحينئذ يجب الإعلام وذلك موقوف على السمع.
وليس لأحد أن يقول : إنّ هذا الّذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذّره ، لأنّ الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك ، فإن كان قبيحا فلا يكون كذلك إلّا للمفسدة ، وإن لم يكن قبيحا فذلك الحسن. وهذه قسمة متردّدة بين النفي والإثبات فكيف اخترتم أنتم قسما ثالثا لا يكاد يعقل؟ وذلك أنّ الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك. ولكن لا يمتنع أن يكون للمكلّف حالة اخرى يتعلّق بها المفسدة والمصلحة ، وهي الحالة الّتي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل ، وإذا كان ذلك جائزا لم ينفعنا تردّد الفعل في نفسه بين القبح والحسن واحتجنا أن نراعي حال المكلّف ، فمتى وجدنا المصلحة تعلّقت بإعلامه جهة الفعل وجب ذلك فيه ، ومتى تعلّقت المفسدة بذلك وجب ألّا يعلم ذلك وكان فرضه الوقف والشكّ وهو الّذي لخصناه (١)
__________________
(١) كذا في النسخ ، وفي العدّة : لحضناه ، ولعلّ الصحيح : لحصناه. لحص خبر فلان : استقصاه وبيّنه شيئا فشيئا ( المنجد ).