ينبغي أن يتأمّل جيّدا ، فإنّه يسقط معتمد القوم في أدلّتهم ، فربّما لم يتصوّر كثير من الّذين يتكلّمون في هذا الباب ما بيّنّاه ، ومتى تأمّله من يضبط الاصول وقف على وجه الصواب في ذلك.
فإن قيل : كيف يمكنكم أن تدفعوا حسن هذه الأشياء ونحن نعلم ضرورة حسن التنفّس في الهواء وتناول ما يقوم به الحياة طول مدّة النظر في حدوث العالم وإثبات الصانع وبيان صفاته ، وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الأوقات من الغذاء وغير ذلك ، وذلك يؤدّي إلى تلفه وعطبه ، ومن ارتكب ذلك علم بطلان قوله ضرورة.
قيل له : أمّا التنفّس في الهواء فالإنسان ملجأ إليه مضطرّ وما يكون ذلك حكمه فهو خارج عن حدّ التكليف ، فإن فرضوا (١) فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلّم ذلك بل ربّما كان قبيحا على جهة القطع ، لأنّه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل.
وأمّا أحوال النظر فمستثناة أيضا ، لأنّه في تلك الأحوال ليس بمكلّف أن يعلم حسن هذه الأشياء ولا قبحها ، لأنّه لا طريق له إلى ذلك ، وإنّما يمكنه ذلك إذا عرف الله تعالى بجميع صفاته وأنّه ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا ، فإذا علم جميع ذلك حينئذ تعلّق فرضه بأن يعلم هذه الأشياء هل هي على الحظر أو على الإباحة؟ وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يقدم إلّا على قدر ما يمسك رمقه وتقوم به حياته.
ومن أصحابنا من قال : إنّ في هذه الأحوال لا بدّ من أن يعلمه الله تعالى ذلك بسمع يبعثه إليه فيعلمه أنّ ذلك مفسدة يتجنّبه أو مصلحة يجب عليه فعله أو مباح يجوز له تناوله. وعلى ما قرّرته من الدليل لا يجب ذلك ، لأنّه إذا فرضنا تعلّق المصلحة والمفسدة بحال المكلّف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا ، ويكون فرضه فيه كلّه الوقف والشكّ والاقتصار على قدر ما يمسك رمقه وحياته. وهذا الدليل الّذي ذكرنا هو المعتمد في هذا الباب ، والّذي يلي ذلك في القوّة أن يقال : إذا فقدنا الدلالة على حظر هذه الأشياء وعلى إباحتها وجب التوقّف فيها وتجويز كلّ واحد من الأمرين.
وليس يلزمنا أكثر من أن نبيّن أنّ ما تعلّق به كلّ واحد من الفريقين ليس بدليل
__________________
(١) في العدّة : فرضتموه.