كتفرّق الاتّصال ونحوه بالعلم الحضوريّ الذي يحضر فيه المعلوم بوجوده الخارجيّ عند العالم ، لا بالعلم الحصوليّ الذي يحضر فيه المعلوم عند العالم بصورة مأخوذة منه لا بوجوده الخارجيّ ، فليس عند الألم أمران : تفرُّق الاتّصال ـ مثلا ـ والصورة الحاصلة منه. بل حضور ذلك الأمر المنافي هو الألم بعينه ، فهو وإن كان نحواً من الإدراك لكنّه من أفراد العدم ، وهو وإن كان نحواً من العدم لكن له ثبوت على حدّ ثبوت أعدام الملكات ، كالعمى والنقص وغير ذلك.
والحاصل أنّ النفس لكونها صورة الإنسان الأخيرة التي بحذاء الفصل الأخير جامعةٌ لجميع كمالات النوع واجدةٌ لعامّة القوى البدنيّة وغيرها ، فتفرُّق الاتّصال الذي هو آفةٌ واردةٌ على الحاسّة تدرك النفس عنده فقدها كمالُ تلك القوّة التي وردَتْ عليها الآفة في مرتبة النفس الجامعة لا في مرتبة البدن المادّيّة.
ثمّ إنّ الشرّ لمّا كان هو عدم ذات أو عدم كمال ذات كان من الواجب أن تكون الذات التي يصيبه العدم قابلةً له ، كالجواهر المادّيّة التي تقبل العدم بزوال صورتها التي هي تمام فعليّتها النوعيّة ، وأن تكون الذات التي ينعدم كما لها بأصابة الشرّ قابلةً لفقد الكمال ، أي أن يكون العدم عدماً طارياً لها لا لازماً لذاتها ، كالأعدام والنقائص اللازمة للماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ هذا النوع من الأعدام منتزع من مرتبة الوجود وحده.
وبهذا تبيّن أنّ عالم التجرّد التامّ لا شرّ فيه ، إذ لا سبيل للعدم إلى ذواتها الثابتة باثبات مبدئها ، ولا سبيل لعروض الأعدام المنافية لكمالاتها التي تقتضيها وهي موجودة لها في بدء وجودها.
فمجال الشرّ ومداره هو عالم المادّة التي تتنازع فيه الأضداد وتتمانع فيه مختلف الأسباب وتجري فيه الحركات الجوهريّة والعرضيّة التي يلازمها التغيّر من ذات إلى ذات ومن كمال إلى كمال.
والشرور من لوازم وجود المادّة القابلة للصور المختلفة والكمالات المتنوّعة المتخالفة ، غير أنّها كيفما كانت مغلوبةٌ للخيرات ، حقيرة في جنبها إذا قيست إليها.