ونحو ذلك ، فتعجبوا غاية العجب ، وقلت لهم أيضا ، إن بلادنا لا سلطان فيها ، وأهلها مستقيمون غاية ، وإنما يكون للقبيلة منها رئيس تأوي إليه في بعض أمورها (٢٨٤) ، والناس مستقيمة على ذلك ، وأهل علم كثير فتعجبوا من هاذين الأمرين غاية ، وقالوا لي : إنهم يعرفون في الحديث ، إن من أحق الناس بالأمان ، قوما لا يعرفون دينارا ولا درهما ، وما كنا نظن أنه موجود في الدنيا : فقلت لهم نعم ، هم أهل بلادنا ، يعيش أحدهم العمر الطويل لم يردينارا ولا درهما ولا عرفه إلا إذا كان من أهل العلم ، فإنه يقرؤه في العلم ، فلما قلت لهم ذلك ، كأنهم رأوا الفضل لبلادنا وأهلها على بلادهم وأهلهم بذلك ، ومن أغرب الأشياء أنهم جميعا أعاجم ، وليس فيهم أحد يعرف لغة الآخر ، ولا يعرفون لغتي أنا التي هي الحسانية ، ولكنهم كلهم أهل علم ، وخبير باللسان العربي ، وأنا ما تكلمت لهم إلا به ولم يتكلم منهم بعض لبعض غيري ، غفر الله لي ، وكلهم غير صاحب الشمال قال لي : إن بلاده فيها الأنعام ، ومن الغريب عندي أنا لم يأتينا شخص واحد غيرنا ، فالتفتّ إليهم ، وقلت لهم : أعلمتم أن الله قادر على أن يجمعنا اليوم لا ريب فيه ، فقالوا كلهم : نعم نعم ، فقلت الدعاء ، فرفعنا أيدينا ، فدعوت وأمنوا على دعائي ، والتفتّ إليهم فإذا هم جميعا متقاربين في السن ، كل واحد منهم في أحسن الفتوة ، فقمنا ، ولم أر منهم واحدا بعد ذلك المجلس إلى الآن ، نرجو الله أن يغفر لنا بالتمام ، والسلام ، في الرابع والعشرين من شوال عام تسعة عشر بعد ثلاثمائة وألف ، عبيد ربه ماء العينين بن شيخه الشيخ محمد فاضل بن مامين ، غفر الله لهم وللمسلمين آمين».
وسمعته رضياللهعنه ، قال : «إنه حدث بعض أهل الصلاح بهذه الحكاية ، وقال له ،
__________________
(٢٨٤) ليس المقصود في هذه الإشارة أن الصحراء المغربية لم تكن تابعة للسلطة المغربية ، وإنما المقصود منها ضعف السلطة المركزية في هذه الجهة النائية من المملكة المغربية ، وارتباطها بسلاطين المغرب عن طريق مجموعة من الشيوخ والرؤساء الذين يمثلون المخزن بها ، وقد كانت هذه الظاهرة عامة في كثير من جهات المغرب وغيره قبل الحماية ، في الأطلس المتوسط وبلاد الريف وتافلالت ، وغيرها ، ورغم ذلك فقد كانت تعرف الأمن والاستقرار ، وهذا هو المقصود في هذا السياق. وقد كان الشيخ ماء العينين نفسه يمثل ملوك المغرب في الصحراء بظهائر سلطانية معروفة.