كلّ أمر الدنيا له تبع ، ومن سواهم يحمل منها الذّهب ، ويأتي إليها بما يضمحلّ عن قريب ويذهب ، إلى ما يغيّر من العوائد ، ويجرّ السفهاء إلى المفاسد.
ولما هلك (١) هؤلاء الأشياخ ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم ، وصادفوا توالي الفتن ، ولم يسلموا من جور السلطان (٢) ، فلم تزل (٣) حالهم في نقصان إلى هذا الزمان (٤) ، فها أنا ذا لم أدرك (٥) في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشا ، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب ، وأسباب كثيرة تعين على الطلب ، فتفرّغت بحول الله ، عزّ وجلّ ، للقراءة ، فاستوعبت أهل البلد لقاء ، وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء ، سواء المقيم القاطن ، والوارد والظاعن.
حاله : هذا (٦) الرجل مشار إليه بالعدوة المغربية اجتهادا ، ودؤوبا ، وحفظا وعناية ، واطلاعا ، ونقلا ونزاهة ، سليم الصدر ، قريب الغور ، صادق القول ، مسلوب التّصنّع ، كثير الهشّة ، مفرط الخفّة ، ظاهر السذاجة ، ذاهب أقصى مذاهب التخلّق ، محافظ على العمل ، مثابر على الانقطاع ، حريص على العبادة ، مضايق في العقد والتوجّه ، يكابد من تحصيل النيّة بالوجه واليدين مشقّة ، ثم يغافض (٧) الوقت فيها ، ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير ، برجفة ينبو عنها سمع من لم يكن (٨) تأنّس بها عادة ، بما هو دليل على حسن المعاملة ، وإرسال السّجية ، قديم النّعمة ، متصل الخيريّة ، مكبّ على النظر والدرس والقراءة ، معلوم الصّيانة والعدالة ، منصف في المذاكرة ، حاسر الذراع (٩) عند المباحثة ، راحب عن الصّدر في وطيس المناقشة ، غير مختار للقرن ، ولا ضانّ (١٠) بالفائدة ، كثير الالتفاف ، متقلّب الحدقة ، جهير بالحجّة ، بعيد عن المراء والمباهتة ، قائل بفضل أولي الفضل من الطّلبة ، يقوم أتمّ القيام على العربيّة والفقه والتفسير ، ويحفظ الحديث ، ويتهجّر بحفظ الأخبار (١١) والتاريخ والآداب ، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق ، ويكتب ويشعر
__________________
(١) في النفح : «ولمّا درج».
(٢) في النفح : «السلاطين».
(٣) في النفح : «يزل».
(٤) في النفح : «الزمن».
(٥) في النفح : «من».
(٦) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠).
(٧) في النفح : «يغافص».
(٨) في النفح : «من لم تؤنسه بها العادة».
(٩) في النفح : «للذراع».
(١٠) ضانّ : اسم فاعل ضنّ أي بخل. لسان العرب (ضنن).
(١١) في النفح : «بحفظ التاريخ والأخبار».