مصيبا في ذلك (١) غرض الإجادة ، ويتكلم في طريقة الصّوفية كلام أرباب المقال ، ويعتني بالتّدوين فيها. شرّق وحجّ ، ولقي جلّة ، واضطبن (٢) رحلة مفيدة ، ثم آب إلى بلده ، فأقرأ به ، وانقطع إلى خدمة العلم. فلما ولي ملك المغرب السلطان ، محالف الصّنع ونشيدة الملك ، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير المسلمين (٣) أبو عنان فارس (٤) ، اجتذبه وخلطه بنفسه ، واشتمل عليه ، وولّاه قضاء الجماعة بمدينة فاس ، فاستقلّ بذلك أعظم الاستقلال ، وأنفذ الحكم (٥) ، وألان الكلمة ، وآثر التّسديد ، وحمل الكلّ (٦) ، وخفض الجناح ، فحسنت عنه القالة (٧) ، وأحبّته الخاصّة والعامة. حضرت بعض مجالسه للحكم ، فرأيت من صبره على اللّدد (٨) ، وتأتّيه (٩) للحجج ورفقه بالخصوم ، ما قضيت منه العجب.
دخوله غرناطة : ثم (١٠) لمّا أخّر عن القضاء ، استعمل بعد لأي في الرّسالة ، فوصل الأندلس ، أوائل جمادى الثانية من عام ستة (١١) وخمسين وسبعمائة. فلما قضى غرض الرسالة (١٢) ، وأبرم عقد وجهته ، واحتلّ مالقة في منصرفه ، بدا له في نبذ الكلفة ، واطّراح (١٣) وظيفة الخدمة ، وحلّ التّقيّد ، إلى ملازمة الإمرة ، فتقاعد ، وشهر غرضه ، وبتّ في الانتقال ، طمع من كان صحبته ، وأقبل على شأنه ، فخلّي بينه وبين همّه. وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربّه. وطار الخبر إلى مرسله ، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة ، والعدول عنها ، بقصد التّخلّي والعبادة ، وأنكر ما نحله (١٤) غاية الإنكار ، من إبطال عمل الرسالة ، والانقباض قبل الخروج عن العهدة ، فوغر صدره على صاحب الأمر ، ولم يبعد حمله على الظّنّة والمواطأة على النّفرة ، وتجهّزت جملة من الخدّام المجلّين في مآزق (١٥) الشّبهة ، المضطلعين بإقامة الحجة ، مولين خطّة الملام ، مخيّرين بين سحائب عاد من الإسلام ، مظنّة إغلاق النعمة (١٦) ،
__________________
(١) قوله : «في ذلك» غير وارد في النفح.
(٢) اضطبن الرحلة : اعتزمها.
(٣) في النفح : «المؤمنين».
(٤) هذه الكلمة غير واردة في النفح.
(٥) في النفح : «الحق».
(٦) الكلّ : التّعب. محيط المحيط (كلل).
(٧) حسنت عنه القالة : حسن قول الناس فيه.
(٨) اللّدد : الخصومة الشديدة. لسان العرب (لدد).
(٩) في النفح : «وتأنّيه».
(١٠) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٠٠ ـ ٢٠٢).
(١١) في الأصل : «ست» وهو خطأ نحوي. وفي نفح الطيب : «سبعة».
(١٢) في النفح : «رسالته».
(١٣) في الأصل : «واصطراح» والتصويب من النفح.
(١٤) في النفح : «ما حقه الإنكار».
(١٥) في النفح : «مأزق».
(١٦) في النفح : «النقمة».