قد فلّ الدهر سباته ، وتركه يندب ما فاته ، والقاضي المترجم به يومئذ مدبّر أحكامها ، وعلم أعلامها ، ومتولّي نقضها وإبرامها ، فارتاح يوما إلى إيناسه ، واجتلاب أدبه والتماسه ، وطلب منه أن يعبّر عن حاله ببيانه ، وينوب في بثّه عن لسانه ، فكتب إليه : [الطويل]
قفا نفسا فالخطب فيها يهون |
|
ولا تعجلا إنّ الحديث شجون |
علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا |
|
ولسنا على علم بما سيكون |
ذكرنا نعيما قد تقضّى نعيمه |
|
فأقلقنا شوق له وحنين |
وبالأمس كنّا كيف شئنا وللدّنا |
|
حراك على أحكامنا وسكون |
وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا |
|
تمدّ رقاب أو تشير عيون |
فنغص من ذاك السرور مهنأ |
|
وكدر من ذاك النّعيم معين |
ونبا عن الأوطان بين ضرورة |
|
وقد يقرب الإنسان ثم يبين |
أيا معهد الإسعاد حيّيت معهدا |
|
وجادك من سكب الغمام هتون |
تريد الليالي أن تهين مكاننا |
|
رويدك إنّ الخير ليس يهون |
فإن تكن الأيام قد لعبت بنا |
|
ودارت علينا للخطوب فنون |
فمن عادة الأيّام ذلّ كرامها |
|
ولكنّ سبيل الصابرين مبين |
لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا |
|
فلا عجب إنّ العبيد تخون |
وما غضّ منّا مخبري غير أنه |
|
تضاعف إيمان وزاد يقين |
وكتب إلى الحكم بن مسعود ، وهو شاهد المواريث بهذه الدّعابة التي تستخفّ الوقور ، وتلج السّمع الموقور :
أطال الله بقاء أخي وسيدي ، لأهل الفرائض يحسن الاحتيال في مداراتهم ، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم ، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسّأ ، معدّة لتحليل هذا الصّنف المنشّأ من الصّلصال والحمأ. فمن ميّت يغسل وآخر يقبر ، ومن أجل يطوى وكفن ينشر ، ومن رمس يفتح وباب يغلق ، ومن عاصب يحبس ونعش يطلق ، فكلما خربت ساحة ، نشأت في الحانوت راحة ، وكلما قامت في شعب مناحة ، اتّسعت للرزق مساحة ، فيباكر سيدي الحانوت وقد احتسى مرقته ، وسهّل عنقفته ، فيرى الصّعبة بالمناصب شطرا ، فيلحظ هذا برفق وينظر إلى هذا شزرا ، ويأمر بشقّ الجيوب تارة والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذا رفيقا ، ويقول وقد خامره السرور : رحم الله فلانا لقد كان لنا صديقا ، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث ، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك