ومرحومة بها جميع الماهيات ، من الدرّة البيضاء إلىٰ الذرّة الهباء ، حتّى أنّ الكافر والكلب والخنزير وإبليس ، وكلّ ما تراه في غاية القذارة والحقارة والملعنة أيضاً مرحومة بها ؛ إذ تلك الرحمة أمر الله الذي يأتمر به كلّ موجود ، وكلام الله الذي لا خالق ولا مخلوق ، وفعل الله الذي اشتمل علىٰ كلّ المفاعيل ، وخطاب الله المتخاطب به جميع الأعيان الثابتة ، وصنع الله الذي كلٌّ مصنوع بذلك الصنع.
فمن كان له عقل صريح وقريحة مستقيمة بعلم أنَّ الصانع هو الله ، والصنع ذلك الوجود ، والمصنوع الموجودات ، وكذلك الآمر والأمر والمؤتمر ، والخالق والخلق المخلوق ، والمتكلم والكلام والمخاطب ، والرحمن والرحمة والمرحوم ، وهكذا ، وفي الحديث القدسي قال : ( رحمتي تغلب علىٰ غضبي ) (١) ، يعني : تعلّق إرادته تعالىٰ بإيصال الرحمة أكثر من تعلّقها بإيصال العقوبة ، فإنَّ الرحمة من مقتضيات صفة الرحمانية والرحيمية ، والغضب ليس كذلك ، بل هو باعتبار المعصية.
وفي الحديث : ( إنّ الله تعالىٰ مائة رحمة ) (٢).
أقول : كأنّه عليهالسلام أراد الكثرة لا تحديد إذ علمت أنَّ رحمته تعالىٰ صفته ، وصفات الله كلّها غير متناهية ، فإنّه حُقّق في موضعه أنَّ صفاته الحقيقية عين ذاته تعالیٰ ، وذاته غير متناهية عدّة ومدّة وشدّة ، فكذلك صفاته غير متناهية.
ثم إنَّ الشيء في قوله : ( كُلَّ شَيء ) بمعنىٰ : مشيء وجوده وهو الماهية ؛ إذ هي مشيء وجودها.
والباء في قول السائل : ( برحمتك ... ) إلىٰ آخره ، للاستعانة ، ويجوز أن تكون للسببية ، وفيه إشارة إلىٰ أنه مرحوم بكلتا الرحمتين.
أمّا بالرحمة الرحمانية ، فوجوده ومشاعره وأعضاؤه وجوارحه جميعاً شاهدة علىٰ مرحوميته ومرزوقيته من الله تعالىٰ ، إذ ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام حين
_____________________________
(١) « الجواهر السنية » ص ١٢٠ ، وفيه : ( رحمتي سبقت غضبي ).
(٢) « بحار الأنوار » ج ٦ ، ص ٢١٩.