ثم انه ذكر في الكفاية (١) ان المشكوك فيه إذا كان من مراتب المتيقن ، وكان الاختلاف بينهما بمجرد الشدة والضعف ، كما في الألوان فيما إذا تيقن الإنسان بتحقق السواد الشديد مثلا ، ثم علم بارتفاع تلك المرتبة ، وشك في ارتفاعه رأسا وبقائه في ضمن مرتبة ضعيفة ، جرى فيه الاستصحاب ، لأن الضعيف والقوي من طبيعة واحدة وان كانا مختلفين في الوجود حقيقة ، إلّا أنهما متحدان بنظر العرف واختلاف المرتبة يعد من الأوصاف والحالات ، فكأن نفس الوجود المتيقن يشك في بقائه ، فيستصحب.
ونقول : أما ما أفاده من جريان الاستصحاب فيما إذا احتمل حدوث مرتبة أخرى بعد انعدام المرتبة المتيقنة ، كما إذا علمنا بارتفاع ما كنا على يقين منه من مرتبة عدالة زيد أو علمه ، واحتملنا حدوث مرتبة أخرى منها أشد أو أضعف ، فهو تام لا شبهة فيه ، إلّا أن عده من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، كما هو ظاهر كلامه ، غير صحيح ، لأنه يعتبر فيه أن يكون هناك وجودان ، أحدهما : متيقن الارتفاع ، والآخر : محتمل الحدوث ، وليس المقام هكذا ، بداهة ان اختلاف المرتبة لا يوجب ذلك ، بل المراتب المختلفة ماهية واحدة موجودة بوجود واحد حقيقة. وهذا أحد البراهين التي أقيمت على أصالة الوجود ، فانهم ذكروا أن الماهية لو كانت هي الأصيلة لزم تحقق أمور أصيلة غير متناهية فيما بين المبدأ والمنتهى عند اختلاف مراتب الكم والكيف ، لاستحالة الطفرة ، فان كل مرتبة منها ماهية مستقلة ، فإذا كانت الطفرة مستحيلة ، لا بد وأن يكون الرقي من الضعف إلى الشدة بالترتيب ، وكل مرتبة تفرض فهي قابلة للتجزية ، فيلزم المحذور المزبور.
__________________
(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٤.