وثانيهما : أنّ الألفاظ والمعاني غير متناهية ؛ إذ اللفظ يتركّب من الحروف ، وكلّما تركّب على كيفيّة تتصوّر فيه كيفيّة اخرى ، والمعاني أيضا كذلك ؛ إذ المعاني الممتنعة والواجبة أيضا تحتاج إلى وضع الألفاظ لها ، فكيف يمكن للبشر المتناهي وضع الألفاظ الغير المتناهيّة للمعاني كذلك؟! فلا بدّ من انتهاء الوضع إليه تعالى ، وهو على كلّ شيء قدير.
ثمّ ذكر تأييدا لهذا بأنّه لو سلّم إمكان ذلك للبشر فتبليغ ذلك التعهّد وإيصاله إلى عامّة البشر دفعة محال عادة.
ودعوى أنّ التبليغ والإيصال يكون تدريجا ممّا لا ينفع ؛ لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ ضروريّة للبشر على وجه يتوقّف عليه حفظ نظامهم ، فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهّد إليهم ، بل يسأل عن الخلق الأوّل كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنّه لم يكن بعد وضع وتعهّد من أحد؟ وكيف كلّم يعرب بن قحطان ـ مثلا ـ الحاضرين لمجلس الوضع؟ إذ المفروض أنّهم لا يعلمون بوضع الألفاظ للمعاني ، فالواضع هو الله تعالى ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلّقاتها وضعا تشريعيّا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيّا ، فإنّ ذلك ممّا نقطع بخلافه ، بل المراد من كونه تعالى واضعا أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبراز مقاصدهم بالألفاظ فلا بدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنه بوجه ، إمّا بوحي منه إلى نبيّ من أنبيائه ، أو بإلهام منه إلى البشر ، أو بإيداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم حسب ما أودعه الله في طباعهم ، فدعوى أنّ مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع ممّا لا سبيل إليه ؛ لما عرفت من عدم إمكان إحاطة البشر