لا يحتاجان في الواقع إلى الأزيد من لحاظين ، ولكن إن قلنا : بمدخليّة خصوصيّة ذهنيّة في معناهما فلا بدّ من لحاظ ثالث فيهما ، فإنّ معنى «من» عبارة عن الابتداء الذي لوحظ آلة للغير.
والحاصل : أنّ استعمال كلمة «من» يحتاج إلى لحاظ اللفظ أوّلا ، وإلى لحاظ الابتداء آلة للغير ثانيا ، وإلى لحاظ مجموع القيد والمقيّد بعنوان المعنى ثالثا ، ويعبّر عن الثاني باللحاظ الآلي ، وعن الثالث باللّحاظ الاستعمالي ، مع أنّ الوجدان يأباه.
إن توهّم أنّ اللحاظ الثاني كاف ولا نحتاج إلى اللحاظ الثالث ، قلنا : إنّ لازم ذلك تقدّم الشيء على نفسه ، فإنّ اللحاظ في المعاني الحرفيّة اخذ قيدا للمعنى ، وهو مقدّم على الاستعمال من حيث الرتبة ، واللحاظ الاستعمالي متأخّر عن المعنى.
والحاصل : أنّ المعاني الحرفيّة لم تكن جزئيّة ، بلا فرق بين الجزئيّة الخارجيّة والذهنيّة ، بل هي متّحدة مع المعاني الاسميّة في جميع المراحل الثلاثة.
إن قلت : فعلى هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ويلزم أن يكون مثل كلمة «من» و «الابتداء» مترادفين ، وصحّة استعمال كلّ منهما موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها.
قلنا : إنّ هذا باطل كما هو واضح.
وما قاله صاحب الكفاية قدسسره فيه احتمالات ، والمهمّ منها احتمالان :
الأوّل : أنّ الواضع حين وضع كلمة «الابتداء» لاحظ مفهوما كلّيّا بما أنّه مفهوم كلّي الابتداء ، ثمّ وضع لفظ «الابتداء» ولفظ «من» لهذا المفهوم واستعملهما فيه ، والفرق بينهما في شرط الوضع كالشرط في باب المعاملات ؛