المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «التغابن» (١)
أقول : لمّا وقع في آخر سورة «المنافقون» : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [الآية ١٠]. عقّب بسورة التغابن ، لأنه قيل في معناه : إن الإنسان يأتي يوم القيامة ، وقد جمع مالا ، ولم يعمل به خيرا ، فأخذه وارثه بسهولة ، من غير مشقّة في جمعه ، فأنفقه في وجوه الخير ، فالجامع محاسب معذّب مع تعبه في جمعه ، والوارث منعّم مثاب ، مع سهولة وصوله إليه ، وذلك هو التغابن.
فارتباطه باخر السورة المذكورة في غاية الوضوح. ولهذا قيل هنا : (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦).
وأيضا ففي آخر «المنافقون» : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [الآية ٩]. وفي هذه : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الآية ١٥]. وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة ، ولذا ذكرت على ترتيبها (٢).
وقال بعضهم : لمّا كانت سورة «المنافقون» رأس ثلاث وستين سورة ، أشير فيها إلى وفاة النبي (ص) بقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [الآية ١١]. فإنّه مات على رأس ثلاث وستين سنة ، وعقّبها بالتغابن ، ليظهر التغابن في فقده (ص) (٣).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). يعني الأموال أوّلا ، والأولاد ثانيا ، وفي كلتا السورتين.
(٣). أورد السيوطي هذا القول في الإتقان : ٤ : ٣٠ غير معزو كما هو هاهنا ، كدليل على أنه ما من شيء إلّا ويمكن استخراجه من القرآن.