المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «الإنسان» (١)
أقول : وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح : فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثمّ ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة ، مفتتحا بخلق آدم أبي البشر.
ولمّا ذكر هناك خلقه منهما ، قال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩). ولما ذكر هناك خلقه منهما ، قال هنا : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) ، فعلّق به غير ما علق بالأول ، ثمّ رتب عليه هداية السبيل ، وتقسيمه إلى شاكر وكفور ، ثمّ أخذ في جزاء كلّ.
ووجه آخر : أنّه ، لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة ، ولم يصف فيها حال النّار والجنّة ، بل ذكرهما على سبيل الإجمال ، فصّلهما في هذه السورة ، وأطنب في وصف الجنّة (٢) ، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢). وقوله هنا : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) : شرح لقوله هناك : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥).
وقد ذكر هناك : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١) وذكر هنا في هذه السورة : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). وصف أحوال المؤمنين في الجنّة فصل هنا من قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) الى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢).